ترابط الصدمة: حين نتمسك بمن يؤذينا

في عالم العلاقات الإنسانية، قد يبدو من غير المنطقي أن يتمسك الإنسان بشخص تسبب له بالأذى الجسيم، سواء كان هذا الأذى نفسياً، عاطفياً، أو حتى جسدياً. إلا أن ظاهرة “ترابط الصدمة” أو ما يعرف في الأدبيات النفسية بـ Trauma Bonding، تُظهر أن العقل البشري أكثر تعقيداً مما نتخيله. هذه الظاهرة تسلط الضوء على الروابط العاطفية التي تتكون بين الضحية والجاني في سياقات تتكرر فيها حلقات من الإساءة والتعاطف، الألم والمغفرة، السيطرة والاحتواء.

تُعد ظاهرة ترابط الصدمة من أكثر المظاهر النفسية خطورة وإرباكاً، لأنها تعكس حالة من التناقض الداخلي: كيف يمكن للعقل والقلب أن يتعلقوا بمن ألحق بهما الضرر؟ ما الذي يجعل الإنسان عاجزاً عن مغادرة علاقة مؤذية رغم إدراكه لأذيتها؟ للإجابة على هذه الأسئلة لا بد من الغوص في عمق التفاعل العصبي-النفسي، واستكشاف التكوين السلوكي والعاطفي لهذا النوع من الترابط.

ما هو ترابط الصدمة؟

يشير مفهوم “ترابط الصدمة” إلى العلاقة العاطفية القهرية التي تنشأ بين الضحية والجاني، حيث يحدث نوع من التعلق غير الصحي نتيجة تعرض الضحية لسلسلة متكررة من الأذى تليها لحظات من التعاطف أو الحب المؤقت. هذا التناوب بين الألم والحنان يخلق بيئة من التشويش النفسي تجعل الضحية تعتقد بأن المعتدي هو أيضًا مصدر الحب والأمان، رغم كونه مصدر الخوف والمعاناة.

هذه الظاهرة شائعة في العلاقات المسيئة، سواء كانت عاطفية، أسرية، أو حتى مهنية. ويُلاحظ أن الضحية غالباً ما تدافع عن المسيء، وتبرر سلوكياته، وتلوم نفسها على ما تتعرض له، ما يكرّس حلقة مفرغة من الألم والاعتمادية العاطفية.

الآليات النفسية والعصبية لظاهرة ترابط الصدمة

لفهم هذه الظاهرة لا بد من الرجوع إلى الفيزيولوجيا العصبية والاستجابات الدماغية تجاه الألم والمكافأة. يفرز الدماغ في حالات القلق أو التهديد هرمونات التوتر مثل الكورتيزول والأدرينالين، لكن في اللحظات التالية حين يظهر الجاني بمظهر الحنون، يتم إفراز الدوبامين والأوكسيتوسين، وهي هرمونات مرتبطة بالمكافأة والتعلق والثقة.

هذا التناوب يبرمج الدماغ على ربط الإساءة بالمكافأة، ويُنتج ما يُعرف في علم النفس بـ”جدلية المكافأة المتقطعة”، وهي أكثر أنماط التعزيز قوة وتأثيراً. عندما لا يعرف الإنسان متى سيحصل على الحب أو الحنان، فإنه يسعى وراءه بشكل أكثر تعلقاً، لأن الغموض يغذي التعلق العصبي.

متى يبدأ ترابط الصدمة بالتشكل؟

يتشكل ترابط الصدمة عادة في بيئات تتسم بـالاختلال العاطفي، والعنف الدوري، وانعدام الأمان النفسي. ويمكن أن تبدأ ملامحه في سن الطفولة، خاصةً في البيئات الأسرية التي تسودها أنماط التعلق المضطربة، مثل:

• أحد الأبوين القاسيَين الذي يُظهر الحب تارة والعنف تارة أخرى.

• الإهمال العاطفي المتبوع بتصرفات تعويضية مفاجئة.

• انعدام الثبات العاطفي من مقدمي الرعاية.

وعندما يكبر الطفل في مثل هذه البيئة، يتبرمج على أن الحب مقرون بالألم، ويصبح من السهل عليه لاحقاً تكوين علاقات يشوبها العنف العاطفي. فهو لا يرى في الأذى أمراً غير مألوف، بل يعتبره جزءاً من العلاقة الحميمة.

العلامات النفسية لترابط الصدمة

هناك عدد من المؤشرات التي تدل على أن الإنسان يعيش تحت تأثير ترابط الصدمة، منها:

• التمسك بالشخص المؤذي رغم الإيذاء المستمر.

• تكرار تبرير سلوكيات المعتدي.

• الشعور بالذنب عند التفكير بإنهاء العلاقة.

• فقدان القدرة على تصور الحياة بدون المعتدي.

• اللجوء إلى العزلة أو الكتمان خوفاً من أن ينتقد الآخرون العلاقة.

• الاعتماد العاطفي الكامل على الشخص المؤذي.

لماذا يصعب على الضحية الانفصال عن الجاني؟

أحد الأسباب الجوهرية هو برمجة الدماغ على الخوف من الخسارة أكثر من الألم ذاته. فالضحية قد تكون متمسكة بالوهم العاطفي الذي تعتقد أنه سينقذها لاحقاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن نقص التقدير الذاتي، والخوف من الوحدة، وانعدام الأمان الداخلي، تُعزز من هشاشة الضحية أمام التعلق بالمؤذي.

هناك أيضًا ما يُعرف بـ”الهوية الممزقة”، حيث تبدأ الضحية بفقدان معالمها النفسية بسبب العلاقة، وتصبح غير قادرة على رؤية نفسها خارج هذا الإطار، فتصبح العلاقة المسيئة مرآة وجودها.

الأبعاد الاجتماعية والثقافية

تلعب العوامل الاجتماعية والثقافية دوراً مهماً في تكريس ترابط الصدمة. ففي كثير من المجتمعات، يُنظر إلى المرأة التي تترك زوجها المسيء على أنها فاشلة أو “مقصّرة”، كما يُشجَّع على الصبر والتضحية باسم الأسرة أو الدين أو التقاليد. هذه المنظومة تضغط على الضحية نفسياً وتُعيق قدرتها على الاستقلال واتخاذ قرار بالانفصال.

كذلك، يشيع في الخطاب الثقافي ت romanticization للعلاقات المؤلمة، حيث تُصوَّر المعاناة العاطفية كجزء طبيعي من الحب الحقيقي، وهو ما يطبع في الأذهان أن الألم جزء من الارتباط العاطفي.

ترابط الصدمة في العلاقات الزوجية والعاطفية

في العلاقات العاطفية، يأخذ ترابط الصدمة أشكالاً متعددة، منها:

• الدورة العاطفية المألوفة: حيث تبدأ العلاقة بفترة شهر عسل، ثم تليها إساءة، ثم اعتذار، ثم تصالح، وتعود الدورة من جديد.

• التحكم العاطفي: حيث يستخدم الجاني الحب كوسيلة تحكم، يقدمه متى يشاء ويسحبه متى يشاء.

• العزلة: حيث يسعى الجاني إلى عزل الضحية عن أصدقائها وعائلتها، مما يجعلها أكثر اعتماداً عليه.

• اللعب على احتياجات الضحية: حيث يبرز الجاني في البداية كشخص يحقق للضحية أحلامها أو يعالج جراحها القديمة، ثم يستخدم تلك الاحتياجات كوسيلة للسيطرة.

ترابط الصدمة في العلاقات الوظيفية والمهنية

تتجلى هذه الظاهرة أيضاً في بيئات العمل، حين يتمسك الموظف بمدير متسلط أو مؤسسة تستنزف جهوده ولا تقدّره. هذا النمط يحدث حين يُغرق المدير الموظف بالإطراء تارة، ثم يُهينه أو يتجاهله تارة أخرى، مما يجعل الموظف في حالة قلق دائم ويسعى لإثبات نفسه دون جدوى، ويشعر بأنه لا يمكنه النجاح في مكان آخر.

الجدول التالي يوضح الفرق بين الترابط الصحي والترابط الناتج عن الصدمة:

كيف يتحرر الإنسان من ترابط الصدمة؟

التحرر من هذا النوع من العلاقات يتطلب أولاً إدراك الضحية بأنها داخل علاقة مسيئة، وهو أمر صعب للغاية بسبب تشوش الرؤية العاطفية. ثم تأتي الخطوة الأهم وهي إعادة بناء الهوية، واستعادة التقدير الذاتي من خلال:

• العلاج النفسي المتخصص: خاصة العلاج المعرفي السلوكي والعلاج القائم على الصدمات.

• الدعم الاجتماعي: من خلال دوائر الأصدقاء والعائلة الموثوقة.

• الانخراط في أنشطة تعزز القوة الشخصية: مثل الرياضة، القراءة، التطوع.

• قطع التواصل الكامل مع المعتدي: وهو ما يُعرف في العلاج بقاعدة “عدم الاتصال الكامل” No Contact Rule.

• الوعي بالأنماط السابقة: ومراجعة الطفولة والمعتقدات الراسخة حول الحب والارتباط.

خاتمة

إن ترابط الصدمة ليس فقط ظاهرة نفسية بل حالة إنسانية عميقة تعكس هشاشة الروح البشرية أمام الألم والاحتياج، كما تكشف عن تعقيدات العلاقة بين الألم والحب. الخروج من هذا النمط من الترابط ليس سهلاً، لكنه ممكن عند توافر الوعي والدعم والمساعدة النفسية المتخصصة. إن إدراك هذه الديناميكيات هو الخطوة الأولى نحو التحرر، وإعادة بناء علاقة صحية مع الذات أولاً، ثم مع الآخرين.

المراجع:

1. Carnes, Patrick J. The Betrayal Bond: Breaking Free of Exploitive Relationships. Health Communications, Inc., 1997.

2. van der Kolk, Bessel. The Body Keeps the Score: Brain, Mind, and Body in the Healing of Trauma. Penguin Books, 2014.